في طفولتي كنت أسمع جدتي دوماً تردد قائلة “البنت تطلع من بيت أبوها على بيت جوزها على القبر على طول” ورغم صغر سني وقتها، إلا أنني كنت أرى أن هذا يعد ظلمًا بينًا للمرأة؛ لماذا يا جدتي الرجل يسافر ويروح ويذهب؛ ترد قائلة “لأنه راجل”.
كانت النقاشات تُغلق قبل أن تبدأ، والحقيقة أن هذه الأفكار ظلت تسيطر على جزء كبير من المجتمع حتى تزعزعت في الآونة الأخيرة، واستطاعت بعض الفتيات أن يغيرين المسار المعتاد الذي رسمه لهن المجتمع سلفًا.
البداية كانت من الدراسة
بدأت تجربة الاستقلال مع دخولي للجامعة، ولأني إخترت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة كان لابد أن استقل عن أهلي وأنتقل للحياه بالقاهرة
تضيف “إيمان زهران” حديثها عن تجربة الاستقلال، أن والدها ووالدتها كانا رافضين لمبدأ المدينة الجامعية لأن من وجهة نظرهم “ثقافتنا مختلفة والتجمعات بتسبب المشاكل لإختلاف الطبائع والبيئات”، ولهذا كان الحل الأمثل أن أسكن بشقة لوحدي وأسافر لزيارة الأسرة في الأجازات المتقطعة.
سلمى سامي أيضاً بدأت رحلة استقلالها مبكراً للغاية؛ فبعد أن انتقلت عائلتها من القاهرة للاسكندرية كان لابد لها أن تمكث هي في القاهرة بسبب دراستها ولأن سلمى لم تكن تحبذ فكرة السكن مع فتيات أخريات اقترح عليها والدها أن تسكن مع عمها، وهو الأمر الذي لم تشعر سلمى تجاهه بالارتياح ولذلك قررت أن تستقل بمفردها؛ تستفيض سلمى هنا في الحكي وتقص عليّ كيف سكنت وحدها وجهزت مفروشات الشقة بالتدريج ولم تكتف سلمى بدراستها الجامعية الصعبة بقسم الإحصاء داخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولكنها قررت أيضاً أن تعمل بجوار الدراسة.
كانت الظروف مختلفة قليلاً مع المترجمة والباحثة هيام القزاز حيث تحكي لي “أنا من بلاد أرياف وموضوع الاستقلال كان صعب جداً”.
وتضيف هيام وافق والدي على مضض بموضوع الدراسة في القاهرة ولكن بالنسبة للعمل كان هناك أحاديث أخرى.
دخول سوق العمل
بعد أن انتهت إيمان من دراستها لم تفضل العودة مرة أخرى إلى أسرتها، ولكنها قررت الإستقلال واستكمال رحلتها ورسم مسارها الخاص وذلك من خلال الالتحاق بدراسة الماجستير ومن بعدها الدكتوراه.
ولم تكتف إيمان بذلك ولكنها شاركت أيضاً في مؤتمرات دولية والعمل بالعديد من الجهات والجامعات والمراكز البحثية بالخارج، خاصة دولتي التشيك والأردن.
أما هيام فقد حاولت إقناع والدها أن تستكمل طريقها في القاهرة ولأنه كان صعب المراس فقد اقترحت عليها والدتها أن يستعينوا بعمها حتى يقنع الوالد.
سلمى أيضاً كانت فخورة جداً ببقائها لمدة 8 سنوات مستقلة تعلمت خلالهم كيفية إدارة شئون حياتها بكل احترافية؛ ففي إحدى مراحل حياتها جمعت سلمى بين وظيفتين كل منهما بحاجة إلى تركيز كبير وبالطبع فكرة العمل ضرورة جداً للاستقلال وهذا ما تؤكده المترجمة رقية سمير والتي أخبرتني أنها تركت منزل عائلتها في دمياط وقدمت إلى القاهرة من أجل العمل بإحدى الشركات ولكنها قبل أن تأتي لرحاب المدينة الواسعة كانت قد اشتغلت سلفاً بمواقع الفريلانس وجمعت مبلغاً مكنها من ترك بيت عائلتها لتبدأ رحلتها الخاصة.
منى الجندي (اسم مستعار) أكدت أيضاً بدورها على أهمية العمل للمرأة حتى تتمكن من أن تكون سيدة قرارها فبعد طلاقها من زوجها عادت منى برفقة طفليها إلى بيت أهلها ولكن بعد مرور وقت قصير قررت أن تستقل مع أولادها بمفردهم وهو الأمر الذي رفضه الأهل بشدة قائلين لها لا تأتِ إلينا إذا واجهتكِ المشاكل “شيلي شيلتك لوحدك ملناش دعوة”
طريق الاستقلال لم يكن سهلاً
بالنسبة لمنى الجندي فقد واجهت عدة صعاب حتى تستقل مع أولادها؛ أول تلك الصعاب كان مع سماسرة الشقق ومكاتب الإيجارات إذ لم تكن تجد سوى رداً واحداً “هاتيلي راجل إحنا مش بنأجر لستات يعيشوا وحدهم” الأمر نفسه واجهته رقية إذ عثرت بصعوبة بالغة على شقة وافق صاحبها أن يؤجرها لفتاة بمفردها، تضيف الاثنتان أن الأمر لا يتوقف أبداً بعد تأجير الشقة فهناك أعين الجيران المتلصصة التي تلاحقهن في الجيئة والذهاب؛ فحين استعانت منى بإحدى العمال كي يُصلح لها عطلاً في شقتها رأت أن صاحب العمارة قد بعث ابنه ليقف على السلم ويراقبها.
إيمان تقول إنها واجهت أياماً كثيرة من التشتت والضغوط النفسية والخذلان، لكنها لم تكن تتحدث بالأمر حتى لا يقلق عليها أهلها، ولهذا كانت دائماً ما تتظاهر بالقوة حتى في أحلك المواقف “كنت أضع نجاحي نصب عيني فقط ولا شيء آخر”.
سلمى أيضاً واجهتها بعض الصعوبات “كنت باشيل هم اللمبة لما تتحرق ولازم أعمل حساب لكل كبيرة وصغيرة” وبسبب التفكير في جميع التفاصيل شعرت سلمى بالإرهاق وتعرضت للكثير من الضغط العصبي والنفسي وبمرور الوقت قررت أن تربي حيوانات أليفة حتى تشعر ببعض “الونس” والطاقة الإيجابية.
هيام أيضاً تؤكد أن الاستقلال لم يكن سهلاً؛ ففي الوقت الذي كانت تؤكد فيه لوالدها أنها بخير كانت تعاني من بعض الضغط النفسي خاصة بعد مرور تسعة أعوام كاملة على استقلالها ” أن تكوني مسئولة عن كافة أمور حياتك لهو أمر صعب للغاية”.
كيف غيرهن الاستقلال
إيمان تخبرني أنها بعد 17 عام من الاستقلال، أضحت شخصية مختلفة تمامًا عن السابق؛ شخصية عملية ومسؤولة، وأقوى وأقدر على وضع الحدود والخطوط الحمراء، وترتيب الأولويات وتحديد الأهداف وإدارة كافة أمور حياتها بمفردها.
أما سلمى فقالت لي أنها أصبحت في العائلة مثل الجوكر “أي حد عايز خدمة من القاهرة يبقى سلمى” الجميع يطلب منها الخدمات كما يطلبون أيضًا مشورتها في بعض أمور حياتهم،
منى بعد أن كانت مشتتة للغاية بين عملها البحثي ومدارس أبنائها ومصاريفها أصبحت أكثر اتزانًا وقوة، لازالت بالطبع تتعرض لبعض المضايقات ولكنها لم تعد تسكت كالسابق، هيام أضحت أكثر صلابة وممتنة كثيراً لوالدها وعمها ووالدتها أما رقية فتفكر حالياً في السفر خارج مصر لترسم لنفسها حياة جديدة.