article comment count is: 0

حتى لا تعيش الوهم ويبتلعك الاصطناع .. احذر من مقولة “fake it to make it”

“الأجسام الظاهرة في المرآة تبدو أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع”، جملة قد لا تلتفت إليها، تجدها على مرايا السيارات الجانبية، تستوقفني كثيرًا، هل نحن حقًا كما نعتقد؟ هل ندرك أنفسنا بإنصاف؟ هل ما نحققه نجاحًا؟ أين مجال النجاح ومظاهره؟ على السوشيال ميديا؟ صناعة النجاح مسار تحمله السطور التالية.

النجاح قديمًا

لكل منا مفهومه الخاص عن النجاح، سواء في مجال اهتمامه، أو عمله، أو حتى مرحلته العمرية، ونوعه أيضًا.

في عملي الصحفي، كان النجاح معناه “التأثير”، قدرتك على المساعدة في تحويل حياة الناس للأفضل، أتذكر في المرحلة الإعدادية، أن مفهومي للنجاح بعدد الأهداف التي أسجلها، أثناء لعبي كرة القدم بالشارع.

كان شغفي بلعب الكرة يقودني، أردت اللعب لنادي كبير، فيما بعد كان النجاح بالنسبة لي مختلفًا، كيف أحقق مجموعًا ينقلني، من المرحلة الثانوية إلى الجامعة، تتوازى وتتقاطع مسارات النجاح، لكن في ضوء مفهوم آخر اسمه “المنافسة”، التي يعترف فيها الجميع، بأن لدى كل منا شيء يميزه، كان بإمكاننا جميعًا النجاح.

تزداد وتيرة التنافس كلما أردت نجاحًا بحجم أكبر، إذا أردت إنهاء دراستك الجامعية بتقدير جيد، لن تكون مضطرًا لمنافسة أقرانك في الدفعة، أما إذا أردت أن تكون الأول، الأمر يختلف، ستكون منافسة شرسة، أنت تريد أن تكون عضوًا بهيئة التدريس، أو ربما تبحث عن وجاهة اجتماعية ما، لماذا كنا ننجح؟

كنا ننجح لأن لدينا هدف، أكبر من مجرد أمنية، كانت مقاييس النجاح واضحة، ومحددة، افعل كذا تصل إلى كذا، وما أن تصل، مبروك لقد نجحت. لكن ذلك لم يحدث في عصر السوشيال ميديا، ولا في زمان المؤثرين، كان الممثل مؤثرًا، المدرس، الرياضي، المثقف، رواد العمل الاجتماعي، حتى الكشافة، ماذا حدث؟

مقولة fake it to make it

View Results

جاري التحميل ... جاري التحميل ...

رقمنة النجاح

“الأجسام الظاهرة في المرآة تبدو أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع”، مرة أخرى تقفز إلى ذهني، انظر حولك، ما النجاح من وجهة نظرك الآن؟ سفر وصور في أماكن خلابة، بث مباشر من حفل موسيقي، “ستيتوس” عن اجتماع عمل مثمر شاركت به، “منشن” من صديق يشيد بك، كلها صور للنجاح.

“check in” في مكان جديد، “لايك وشير وكومنت” على “بوست” كتبته، بث مباشر من داخل سيارتك وسط الزحام، وأنت في طريقك لصناعة المجد، امتلاكك أحدث موبايل، قيادتك أحدث سيارة، صورة جناح الطائرة، بعد دقائق من تسجيل دخولك في مطار القاهرة، متجهًا إلى أينما أنت ذاهب، تلك بعض مقاييس النجاح اليوم.

في مهنتي، يكفي أن تكتب اسمك مصحوبًا بكلمات: الإعلامي، الكاتب الصحفي، الصحفي، وفي حسابك الشخصي اكتب ما شئت من أماكن عمل، حتى لو لم تعلم أين تقع مقارها، مبروك أنت ناجح، هل تعلم لماذا أنت ناجح؟ الإجابة لأنك مشهور، تغيرت أهداف النجاح، كم كنا مساكين من وجهة نظر الجيل الجديد.

كان النجاح عبارة عن التأثير، بمعنى تحويل حياة الآخرين للأفضل، في أجواء من المنافسة، تقوم على احترام إمكانيات الآخرين، ونقاط تميزهم. صار النجاح تأثيرًا رقميًا، بمعنى أن يشعر الآخرين بأن حياتك أفضل منهم، في أجواء من إلغاء الآخرين، لأن أحدًا ليس أفضل منك بالضرورة، لا معيار سوى نفسك وأنت وكلاكما.

الاصطناع يحكم

هكذا تستطيع وضع كلمة official بجوار اسمك، وتنتظر علامة زرقاء تزين حسابك الشخصي، هذه أيضًا علامات رقمنة النجاح، لا الشهادة الكبيرة التي يحيطها برواز، وتحرص والدتك على تنظيفها من الأتربة، على حائط “الصالون”، أو فوق رأسك في العيادة أو المكتب. وهكذا سيحاول كثيرون تقليدك، وتتغير الأمور في محطة التقليد تلك.

الآن تتردد في أذنك، وتعلو بداخلك، محدثة صدا صوت، جملة تقول “اصطنع الأمر حتى تحققه”، “fake it to make it”، هكذا يقنعك البعض أن تدعي القيام بشيء، إلى أن تستطيع القيام به فعلًا، أتفهم ذلك في أمور تستطيع القيام فيها بمحاكاة أمر ما، إلى أن تكون قادرًا حقًا على تحقيقه.

من منا لم يمسك بالقلم الرصاص، ويضعه في فمه كسيجارة، الكثير منا تعرض للتوبيخ، والضرب أحيانًا، بسبب تلك المحاكاة المضرة بالصحة، الأمر يشبه ذلك في الحقيقة، أنت تدعي نجاحًا وهميًا، أو افتراضيًا، ليس واقعيًا، غير مؤسس، يضرك على المدى البعيد، قد ينتهي بك الأمر في خانة المحاكاة فقط، ماذا يجري؟

الأمر ببساطة، أنك لم تحقق شيئًا فعليًا، أنت تحاكي وتدعي وتصطنع فقط، “اصطنع الأمر حتى تصطنعه”، “fake it to fake it”، إنها علامات الانهيار، انظر حولك، كم من المحيطين بك، وصل إلى قمة شيء ما، ثم اختفى، أو سقط سقوطًا مدويًا، فقط رسم لنفسه مسارًا وهميًا، نافس فيه ذاته فانكشف.

تقول “أنا رقم واحد”، ويزداد الأمر، وتفتتن بذاتك، تقول إنك “الأسطورة”، فيما تقول الأسطورة أن “نارسيس” اعتاد الجلوس على ضفة ينبوع، ينظر إلى انعكاس صورته في المياه، مفتتنًا بذاته، إلى أن غرق وهو يحاول معانقة صورته، مرة أخرى “الأجسام الظاهرة في المرآة تبدو أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع”.

قد ينتهي بك الحال إلى “نارسيس” جديد، ذلك الشخص الذي أصبح اسمه دلالة علمية، عند وصف المصاب بمرض نفسي، الافتتان بالذات، أو “اضطراب الشخصية النرجسية”، هذا لأنك تماديت في الأمر، إلى أن ابتلعك الاصطناع، لم تدرك الحقيقة “أنت لست أكثر مما تعتقد”، ما يظهر في مرآة ذاتك بعيد عن الواقع.

صناعة النجاح

لا يزال بدني يقشعر، كلما سمعت أصوات انهيار الـ “ego”، أو الأنا والغرور، لدى البعض، كأنها حجر ثقيل، مربوط في ساق صاحبه، يسحبه سحبًا عنيفًا سريعا إلى قاع الفشل، لن ترى ناجحًا حقيقيًا إلا متواضعًا. ذلك أنه يعرف نفسه، وقيمته، ودوره، لا ينشغل بتدوين نجاحه على السوشيال ميديا، و”فلاتر” الصور.

بل يخطو خطوات ثابتة، يعلم أن هناك من هم أفضل منه حتمًا، لكن ذلك لا يعيبه، لديه مساحات التفرد، حريص على التطور، لديه أهدافًا واضحة، إذا أرادت “فريدة عثمان”، السباحة الشهيرة، تحطيم أرقامها الإفريقية، لن تنشر فيديو في الصالة الرياضية “الجيم”، ستتخذ خطوات شاقة وممنهجة لتحقيق ذلك، لديها معايير للنجاح.

هي تعلم أنها حققت زمنًا محددًا في مسافة ما، ستتدرب ليلًا ونهارًا، ستهتم بحالتها البدنية والذهنية، لن تشغل نفسها بالمنافسين، بقدر ما ستشغل نفسها بنقطة النهاية، وساعة التوقيت، هي تعرف أخطائها بالضرورة، وتعمل على تجنبها، وتستفيد من تجارب الآخرين، والنصائح الصادقة، وتعليمات المدرب. وتعتمد نظامًا غذائيًا صحيًا، وتفتقد حياة عادية.

تعلم أن لكل نجاح ضريبة، وأن النجاح ليس مجرد “بوست”، على السوشيال ميديا، لكنه سطر في “السيرة الذاتية”، ونقطة في “الكارير”، ودرسًا في الحياة. كنت أقول لمن أهتم بأمرهم “أنت عادي على فكرة”، خوفًا من حالة الزهو، وإحساس الأفضلية الزائف أحيانًا كثيرة، لكنني من أيضًا أثني على كل جهد حقيقي.

الارتكان إلى نجاح، يقود إلى الفشل، أو كما قال لي عجوز ذات مرة “من الجميل أن ترى رؤيا جميلة، لكن الأجمل أن تصير أنت الرؤيا”، ادعاء النجاح يقود للفشل، ألا تكون صادقًا مع ذاتك، حتمًا ستفشل، المكابرة، تقودك للفشل، يا لها من “كليشيهات” مفيدة دائمًا، وعلى النقيض، تقبل الفشل يقودك للنجاح.

هذا ما نسمعه في “التنمية البشرية”، وجلسات الطبيب النفسي، والخطب والعظات الروحية، لكن من شدة بساطتها لا نصدقها أحيانًا، لا نصدق أن “الأجسام الظاهرة في المرآة تبدو أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع”، كن واقعيًا، خطط لها، وأسعى إليها، حتى تحققها، النجاح حالة وقرار، وقدرة على الفعل، ومظهر للتأثير.

أي نجاح لا يحقق لك سعادة، لا يعول عليه، أي نجاح لا يحول حياة دوائرك للأفضل، لا يعول عليه، أي نجاح لا يصاحبه تأثير، لا يعول عليه، أي نجاح لا ينتهي إلى درس مستفاد، لا يعول عليه، أي نجاح لا يأتي بجهد وسعي وتخطيط، لا يعول عليه، اصنعه لا تصطنعه.

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً