مكالمة من شخص ذو صوت رخيم، يبدأها بالتأكد من أنه رقمي، وبعدها يقدم نفسه بطريقة مباشرة وهادفة جدًا “أنا فلان، سمعت اسمك قدامي 3 مرات، من أشخاص مختلفة” كان هذا كافيًا له ليبادر بالبحث عن رقمي وإجراء مقابلة عمل شخصية لم أسعى لها.
شعرت بالكثير من الحيرة، فالمكان المحدد هو مقهى في أحد المولات التجارية العملاقة، وهو ما جعلني أفكر كثيرًا في نوعية ملابسي، في النهاية هو لقاء مع قامة إعلامية كبيرة حتى وإن كان اللقاء في مقهى، وقع اختياري على ما يدعى “سيمي فورمال” أو “كاجول فورمال” وهو ما يعني قميص بأكمام طويلة مع جينز وحذاء رياضي، لا أريد أن أظهر مستهتر باللقاء وفي نفس الوقت لا أريد أن أبدو متكلفا.
توقعت أن يدور الحوار حول خبرتي في مجال الإعلام، فهو يبحث عن سبب ترشيح ثلاثة أشخاص مختلفة لمجهول لا يعرفه، وهو بخبرته ومكانته يعرف جميع العاملين في مجال الإعلام سواء إن كانوا أصحاب خبرة أو يبدأوا طريقهم المهني، لكن المفاجآت كانت تنتظرني بالجملة.
سألني في البداية عن عمل والدي ووالدتي، ومن بعدها أجدادي، ليس مجرد سؤال عابر، استغل مهارته العالية في محاورة الضيوف على اختلاف شخصياتهم في برامجه التي قدمها عبر السنين، وكان ماكينة أسئلة، يسأل عن كل فرد في عائلتي، وظيفته، طباعه، ما تعلمته منه، يسأل عن المطرب المفضل والكاتب المفضل لأجدادي، يسأل عن أكلتي المفضلة وأفضل ما تقدمه أمي على المائدة، طوفان من الأسئلة غير المتوقعة، والتي ظننت في البداية أنها مجرد أسئلة لكسر الجليد، لكن في الواقع استمرت لأكثر من ساعتين، على نفس المنوال، سؤال يقود لسؤال، وهو منصت بشدة، انتهى من أفراد عائلتي بالكامل ثم أتي دوري.
توقعت أن تكون الأسئلة على نفس الشكل، لكنه بادرني بسؤال عن حبي الأول، كيف تعاملت مع رحيلها، المدة الزمنية التي استغرقتها حتى ارتبطت بأخرى، ميولي الكروية، قدرتي على الطبخ، وجهة نظري في الزواج المدني، سألني حتى عن سعر المشروب الذي طلبته في جلستنا، هل أتذكره أم لا؟ وهل هو أغلى أم أرخص من المعتاد؟
وفي نهاية اللقاء تحديدًا قبل نهايته بعشر دقائق، سألني عن خططي الفترة قادمة، خاصة وأنه ينوي تحضير برنامج جديد ويريد أن يضمني في فريق عمله، رحبت بشدة وأرادت أن أثبت حبي ونهمي للتعلم فأخبرته برغبتي في دراسة الإعلام، لينقلب وجهه “ما كنت ماشي كويس” ويخبرني بعدها بأني لا احتاج لدراسة مكثفة، لكني أحتاج إلى محاضرات سريعة في أشياء بعينها.
انتهى الحديث الشيق جدًا، المقابلة الأفضل، والتي لم أفهمها حتى دارت الأيام دورتها ووجدت نفسي مكانه، أجلس على مقعده أحاول استكشاف موظف جديد سينضم إلى فريق عملي، ودون تطويل مع نهاية المقابلة الأولى شعرت بأن كل تلك الأسئلة المعتادة لا تفيد، خاصة تلك المحفوظة “شايف نفسك فين كمان 5 سنين؟” و”احكي لي موقف صعب اتعرضتله واتصرفت فيه إزاي؟” أسئلة تدل على كسل شديد ورغبة في “تستيف” الأوراق ليس إلا.
هذا الإعلامي تمكن بأسئلته الحقيقية في محاصرتي، عرف بأكثر من طريقة رؤيتي لمستقبلي، وعرف بطرق كثيرة غير مباشرة كيف أتصرف في المواقف الصعبة، وعرف تأثري بمن حولي وتأثيري فيهم، عرف الكثير والكثير في جلسة مطولة غرضها هو معرفة الشخص لا القدرات، اكتفى بالترشيح الذي أتي له من أكثر من شخص، وكان قراره هو استكشاف موظفه الجديد.
رجل في خبرته عرف أن الموهبة وحدها لا تكفي، وأن المهارات دون صفات إنسانية بعينها قد لا تجدي، الموهبة تعوض بالاجتهاد، والمهارات يمكن اكتسابها، لكن من الصعب تكوين شخصية موظف في شهور، هو يبحث عن عنصر سيتم إضافته لفريق يعمل منذ مدة طويلة، لذلك يريد دخول سلس، يريد أن يعرف هل هذا العنصر الجديد قادر على الانصهار في مجموعة العمل، أم سيصبح نغمة نشاز تفسد المقطوعة بالكامل.
في النهاية لم يبدأ برنامجه الموعود، لكنه أعطاني أهم درس في مهنتي، إذا كان غرضك “تستيف” الأوراق، إذن اترك مسؤول التوظيف يعمل منفردا، أما إن كنت تبحث عن شيء معين، فالطريقة مختلفة بالتأكيد.
أقرأ أيضا: إنها أسوأ مقابلة عمل.. لا تعيد أخطائي