هل نحن أحرار حقًا؟ سؤال كثيرًا ما تردد في ذهني، لسنا سجناء بالمعنى الحرفي، داخل زنازين، وراء القضبان، خلف الأسوار، نحن لسنا حتى أفضل من “آرشي ويليامز”، الذي قضى عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، 37 عامًا، لجرم لم يرتكبه حتى، لكنه كان حرًا، وصنع لنفسه مسارًا ملهمًا، نتشاركه في السطور التالية.
“آرشي” سجينًا
في 9 ديسمبر 1982، تعرضت امرأة بيضاء للطعن، بعد أن تعرضت لاغتصاب وحشي، في ولاية لويزيانا الأمريكية، وبعد تحقيقات تم القبض على رجل، ذو بشرة سمراء، في 4 يناير 1983، وصدر ضده حكمًا بالسجن المؤبد، في أقسى سجون أمريكا، وأكثرها دموية، وبعد 37 عامًا، اتضح أن الرجل برئ ولم يفعلها.
نظن جميعًا أننا أحرارًا، ونؤمن بأننا أبرياء، لكن الواقع غير ذلك تمامًا، نحن سجناء عادات وتقاليد، ونظرة مجتمع، نتبادل الأدوار 60 مرة في الدقيقة الواحدة، تتهم أحدهم بالنفاق، وتتنمر على أحدهم لأنه بدين، وتصدر حكمًا على فتاة جميلة بأنها دون أخلاق بحسب ملابسها، وتبكي في المساء متهمًا الآخرين بأنهم يظلموك.
تتحرك يوميًا في زنزانات افتراضية، من البيت إلى العمل، إلى المدرسة والجامعة. تؤدي أدوارًا لأنها مجرد التزام، لكنك لا تفعل شيئًا بإرادتك الحرة. تتثاقل خطاك في الذهاب إلى المنزل، تعلم أنك ملتزم بطلبات، وبدفع مصروفات المدرسة، أشغال شاقة لا تستطيع الهروب منها، تخشى من التبعات، تحرص على حسن السير والسلوك.
من سجين لسجين
مثلما تعرض “آرشي” للمتاعب في السجن، من باقي السجناء، نتعرض نحن أيضًا لمثل تلك المتاعب.
في عملك، تمارس الأشغال الشاقة، تعمل لساعات طويلة، ربما في ظروف غير مريحة، تتلقى تعليقات سخيفة عن وزنك، وملاحظات محبطة من مديرك، يخبرك بـ”التارجت”، وما عليك فعله حتى لا تواجه المتاعب، حسن السير والسلوك مجددًا.
هكذا تنتقل من زنزانة لأخرى، ومن سجن لآخر، عليك أن تفعل نفس الأمر كل يوم، بنفس الأداء، بنفس كل شئ.
عادة تجر عادة، ويتسلل اللون الرمادي إلى حياتك، وقراراتك. لنتكلم من سجين لسجين، هل تستطيع اتخاذ قرار صائب تجاه اختيار الكلية المناسبة لك؟ هل مشاعرك تجاه الفتاة التي تحبها حقيقية؟
يمارس أهلك عليك ضغوطًا هائلة، هم يتخذون قراراتك الصغيرة والكبيرة، تلبسين ما يرونه مناسبًا، تقبلين الارتباط بشخص اختاروه لك، وفي الطريق للدراسة أو العمل، تواجهين صنوفًا من التمييز، أنت سجينة جسدك وملبسك وأفكارك، ونظرة مجتمعك، هل مشاعرك تكون صادقة؟ هل تراودك طموحات إثبات الذات؟ فقط يشغلك تحقيق حسن السير والسلوك.
“آرشي” حرًا
ظل “آرشي” قابعًا في السجن، 37 عامًا، بعد محاكمة استمرت 3 أشهر، لم تتطابق فيها بصماته مع مسرح الجريمة، كما شهد 3 بوجوده بمنزله وقت الجريمة، حتى الضحية أكدت أن المغتصب كان أطول منه، وعلى صدره ندبة، ولم يكن على صدر “آرشي” شيئًا. رغم ذلك كان لدى “آرشي” شيئًا خاص.
“لقد ذهبت للسجن، لكن عقلي لم يذهب للسجن”، هكذا يوضح “آرشي” خلال مقابلة تلفزيونية، ويشرح كيف استطاع تحمل كل ذلك، معبرًا عن قناعته بأن “الحياة هي كيفية إحساسك بها”، كما قال في تصريحات صحفية: “لم أسمح للروح الشريرة أن تحيا في قلبي”، متسلحًا بكل ذلك، إضافة للغناء، تخطى محنة سجنه.
في مارس 2019، أمر قاضٍ بإعادة فحص بصمات بمسرح الجريمة، واتضح أن “آرشي” برئ، تم الإفراج عنه، واعتذر له المدعي العام المحلي: “كممثل للولاية، أعتذر”، هذا كل شئ، أصبح “آرشي” 59 عامًا حرًا، من الناحية الجسدية، بعد أن ظل 37 عامًا، حرًا من الناحية العقلية، هل نستطيع أن نكون مثله؟
أنت و”آرشي”
تتشابه قصتك اليومية مع “آرشي”، تتشابك في المحاور الرئيسية أحيانًا، مع اختلاف وحيد جوهري، “آرشي” سجين بجسده لا عقله، أنت سجين بعقلك لا جسدك، أنت تستسلم لعاداتك وروتين حياتك، تستسلم لالتزاماتك، تقسو كثيرًا على نفسك، بلا داعٍ، لأنك تقوم بأدوار كثيرة، ليست مطلوبة منك، وتتمادى في الأمر حد التطرف أحيانًا.
أنت تريد أن تكون ابنًا صالحًا، تتخلى عن أحلامك وطموحاتك، لطالما أردت أن تكون موسيقيًا، تريد الدراسة خارج مصر، حلمك ان تصبح موزعًا موسيقيًا شهيرًا، والدك كان يكره التاريخ، لذلك دخلت “علمي رياضة” في الثانوية العامة، لتحقق حلم والدتك بأن تكون مهندسًا، لم تحصل هي على المجموع الكافي لدخول الهندسة.
هكذا تلبي أحلام ليست أحلامك، وتخوض مسارات ليست مساراتك، لكنك لديك الجرأة لتصدر أحكامًا على كل أحد وأي شئ، ونحن من حولك ،لدينا ذات الجرأة، في الحكم على انفعالاتك، وأفعالك ومشاعرك، كلانا على خطأ، ما لم يصدر الأمر من “عقل حر”، فأنت كاذب، ومشاعرك خادعة، أنت في حاجة لترتيب دوائرك.
“ما يحدث في فيجاس يظل في فيجاس”، مثل أمريكي شهير، تستطيع تطبيقه في تفاصيل يومك، أهل بيتك غير مسؤولين عن أداءك وأداء رؤساءك في العمل، كما أن زملاء العمل وإتقان ما تفعله لا علاقة له بضغوط الأهل، وكل ذلك لا علاقة له بإرادتك في الحفاظ على عقلك حرًا مهما حدث.
العقل الحر
أنت تفعل ما يفوق إمكانياتك، يتعامل المحيطين بك على أن ذلك واجبك، تتراجع شيئًا فشيئًا، تتجه أصابع الاتهام إليك “لقد تغيرت”، لديك سيناريوهان، الاستسلام والاعتذار على تقصير لم تفعله، أو المواجهة والتأكيد بأن هذا ليس دورك أصلًا، يتصاعد الأمر “لم يطلب منك أحد شيئًا بالأساس”، في كلتا الحالتين أنت السبب.
عليك تحديد دورك في الحياة: “في المنزل، العمل، الجامعة، المدرسة، النادي، بين الأصدقاء، في ملعب كرة القدم”، وقتها سيكون جهدك محددًا ومثمرًا، لا تنسى أنك تمارس تلك الأدوار، وتتبدل تلك الأدوار، لكن عقلك حرًا لا يتغير بتغير أدوارك، عقلك الحر هو اللحظة الهادئة، التي تفعل فيها ما تريد دون ضغوط.
كأنك ترتدي “مايوه”، تمدد جسدك على “شيزلونج” مريح، أمامك البحر بألوانه الهادئة، فوقك سماء صافية، شمس تحتويك، ونسمة هواء باردة تداعب جسمك الرطب، لا أحد يعلق على وزنك الزائد، فقط موسيقاك المحببة إليك، والتفكير في اللاشئ، لا “سوشيال ميديا”، لا اتصالات، تفكر في خطوتك المقبلة، في كلمات لم تقلها لحبيبتك.
تلك لحظة “عقل حر”، ذهنك لا يخضع لضغوط أدوارك، لقد أديت أدوارك، في سياقاتها، وأزمنتها، لكن لديك لحظاتك، وزمانك، وسياقاتك الخاصة، الحرة، اهدأ قليلًا، ارتح، استرخ، خذ نفسًا عميقًا، أنت حتى لست مجبرًا على قراءة تلك السطور، ولا حتى الاقتناع بها، اخضعها للتجربة، “العقل الحر” ممارسة، ليس مجرد طرح فلسفي.