عندما دخلت المرحلة الثانوية، كنت أمشي على خُطى ثابتة، وعلى عكس كثير من زملائي حينها، عندما يسألهم أي شخص “ما الكلية التي ترغب في دخولها” يكون ردهم “حسب التنسيق” أو “لا نعلم” وغيرها من ردود الحيرة والارتباك المعتادة لطلاب الثانوية العامة، لكني كنت أعرف بثقة ما الكلية التي أريد أن أدخلها وماذا أريد أن أصبح، “كلية إعلام بجامعة القاهرة” كتبتها على كل كتبي وملخصاتي ووضعت هدفي نُصب عيني طيلة الوقت.
لم أتجادل مع أهلي في أي شيء ولم أعرف هل بإمكاني، كفتاة من الصعيد، السفر والاغتراب بعيدا عن مدينتي وأسرتي؟ فقط كنت أؤجل كل معاركي حين أحصل على مجموع يؤهلني لتلك الكلية، التي كنت أعتقد أنها معضلتي الكبرى طيلة ذلك العام، ولكن أتضح لي فيما بعد أنها معركة عادية مقارنة للمعارك التي تلتها، حدث ما سهرت لأجله ليال طوال وحصلت على مجموع 95.6% وكان يؤهلني للالتحاق بأي كلية أدبية وقتها، وعكس ما انتظرته طويلًا، رفض أهلي سفري ودراستي خارج مدينتي، وبعد معاناة ومكابدة وجدالات ليس لها أول أو أخر أذعنت لرأيهم ودخلت كلية التربية، أعلى كلية أدبية في جامعتي وقتها، قسم اللغة الإنجليزية، دخلتها لأنها كانت الخيار العملي أمامي، على الرغم من أني لا أطيق أن أصبح مُعلمة بأي حال من الأحوال.
دخلت الكلية وأنا متضجرة خصوصًا في الفصل الدراسي الأول من أول عام، وللأسف لم أكن أطيق أي شيء ولكن دراسة الأدب الإنجليزي هوَّنتَ علي الكثير، فأنا في النهاية محبة لتعلم اللغات واللغة هي ما جعلتني أصمد أمام كل هذا لأن الجزء التربوي كان ثقيلًا وصعبًا بالنسبة لي، ومع الوقت بدأت أُدرب نفسي على خطط بديلة وأصبح هدفي أن أستغل لغتي أولًا، في أن أفعل أي شيءوأعمل في كارير مختلف بدلًا من التدريس وسرعان ما أخذت أُدرب وأؤهل نفسي على أن أكون مترجمة.
حضرت مؤتمرات كثيرة وسعيت وراء الفرص والورش المتعلقة بالمجال ومع الوقت بدأت أدرك أهمية اللغة وقيمتها في سوق العمل وحياتي الأكاديمية بل وحياتي العامة كذلك، وأخذت تدريجيًا أتدرب مع نفسي إلى أن أتيت للفرقة الرابعة وصادفت إحدى الفرص التدريبية عن الكتابة، حضرتها ولم تكن كما توقعت لكني عرفت من خلالها مجالًا جديدًا وهو الكتابة الإبداعية والذي هو مقارب كثيرًا للمجال الإعلامي الذي طالما حلمت بدراسته.
كان إحساسي الدائم بأني لم أفعل ما أرغب به يشدني نحو كل جديد وغامض أسعى وراء الفرص وأبحث عما يميزني عن أقراني ويقربني من مجال الإعلام الذي طالما حلمت بدراسته والعمل به، بعد فترة كتبت أولى مقالاتي وكنت في سعادة غامرة ورحت أبحث عن مواقع أستطيع الكتابة فيها وأتت الفرص واحدة تلو الأخرى، بعد محاولات من البحث الدؤوب ومن وقتها وأنا في صعود، كل ذلك كان أثناء دراستي، فكانت خطوة رائعة أن أتعرف على عالم العمل الحر “الفريلانسينج” لأجد نفسي واقفة على أرضية صلبة بعد التخرج، وكانت الحياة كريمة معي من هذه الناحية كما توقعت، وتدرجت في العمل بين عدة مواقع عربية وعالمية وأخذت أتحدث مع معارف وأصدقاء من مجالي ليقيموا كتاباتي وأستزيد منهم، حتى وصلت لتلك اللحظة وأنا أكتب هنا في مسارات.
بعد سنة ونصف على عملي ككاتبة وبعد سنة على تخرجي، بدأت بالسعي لتغيير وضعي للأفضل وأصبحت أفضل من زملائي خريجي كلية الإعلام أنفسهم الذين لا يعرفون كيف يكتبون مقالًا حتى الآن، ليس ذلك فحسب بل حضرت بعض التدريبات والمؤتمرات الخاصة بالإعلاميين خارج محافظتي، منها ما هو تابع لمؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة ومنها ماهو تابع لمؤسسات محلية ولكن كل منها أضاف إلي شيئًا جديدًا.
وبمرور الوقت أكتشفت أن دراسة الإعلام هي جزء نظري فقط وأن الحياة المهنية في الصحافة تختلف كثيرًا عن مجرد دراستها، وأنه لدي مرونة أكبر من غيري في التنقل بين عدة مجالات، كما أتاح لي إحساسي بأني لم أدرس ما أريد أن أكون أكثر حيوية في التعلم والبحث والتنقيب بين المجالات، لهذا لا أندم أبدًا وأعتقد أني لم أكن لأصل إلى هنا إن درست ما أريد حيث أكتشفت أن دراستي للغة الإنجليزية أهم بكثير من دراستي النظرية للأعلام.
ساعدتني لغتي أن ألتحق بإحدى المنح بالجامعة الأمريكية، وهذا ما لم أحلم به، بالإضافة إلى أن سقف طموحاتي أصبح أبعد بكثير مما كان سيكون لو درست إعلام كما أردت، فأنا الآن أحلم بالكتابة في منصات عالمية باللغة الإنجليزية وأن أعمل في المجال بلغة أخرى وهو أمر أوسع وأشمل، ولهذا وإن كنت قد بكيت كثيرًا وحزنت لفترة من الوقت لأن حياتي لم تسر كما أريد، لكنني الآن راضية وهانئة بوضعي وأعلم أني سأحقق ما أريد وسأكون أسعد مما عشت بمراحل كثيرة وأن الحياة إن أغلقت بابًا يمكن أن تفتح مقابله أبواوبًا كثيرة وأن كل ما علينا هو السعي والاستمرار في الكفاح حتى لو غيرنا الاتجاه.