بعد التخرج تمتليء الحياة بالتخبط والتيه، بين شخص قد لا يعرف بالضبط ما الذي يريده، وبين شركات تستغل دائمًا كل من يحمل لقب “حديث تخرج”.
فرص عمل قليلة، وإن وُجدت فهي براتب ضئيل، وحياة تأبى أن تستقر إلا بعد فترة من التجارب المريرة، بين كل ذلك أحكي تجربتي مع التخرج والتيه والإحباطات المتكررة، وكيف خلقت المسار الوظيفي المناسب لحياتي وشخصيتي بعد ثلاث سنوات من العمل وسنتين من التخرج.
تخرجت منذ عامين وبضعة أشهر، لم أكمل ثلاثة أعوام كخريجة بعد، وكنت قد بدأت حياتي المهنية أثناء الدراسة، وقد مررت برحلة من التخبط، ولكني لن أنساها أبدًا وسأتحدث عنها هنا حتى يستفيد منها من هم مثلي، لأنهم قليلين هؤلاء الذين يعرفون ما الذي يريدونه.
تخرجت في كلية التربية وكنت قد خططت لنفسي حياة مهنية محددة سأسير عليها بعد التخرج، ولكن لم أتمكن من تنفيذ ما خططت له، كانت خطتي أن أعمل في مجال دراستي الأساسي وهو التدريس، وبجانبه سأترجم وأكتب مقالات فهذا هو شغفي الذي تمنيت طويلًا أن أدرسه وأعمل به.
أول ما صدمني بعدما بحثت عن مدرسة خاصة لأعمل بها أنني لم أتحمل الوضع أبدًا وأدركت أنه يستحيل أن أُوفق بين العملين، نظام العمل الكامل في المدرسة ونظام العمل الحر في الكتابة والترجمة، وقد كان أحدهما بمثابة محاولة للتجريب لا أكثر وهو التدريس، ولهذا قررت أن أختر الأنسب لي؛ وبعد أسبوع واحد من العمل في المدرسة قررت أني لن أكمل في هذا المجال، وبدأت رحلتي في العمل الحر ككاتبة محتوى.
هل أترك شغفي؛ فقط لأخرج من البيت؟
كانت هناك تحديات كثيرة تواجهني، أولها فكرة بقائي المستمر في المنزل، فكل أفراد أسرتي يخرجون للعمل أو الدراسة وأظل أنا بمفردي دون أن أفعل شيئًا سوى التحديق في “اللاب توب”.
وبعد عودة أمي من العمل نتشاجر دائمًا لأني لم أُعد الغداء، فهي لم تكن تعترف بعملي حينها، بجانب ذلك شخصيتي اجتماعية للغاية وفكرة البقاء بعيدًا عن كل شيء كانت كارثية بالنسبة لي، ولهذا كان على أن أفعل شيئًا حيال هذه المشكلة.
فكرت طويلًا في مجال بديل، هل أترك شغفي؛ فقط لأخرج من البيت؟ هل أبحث عن فرصة عمل بدوام كامل “full time” في مدينتي النائية وأترك كل ما بدأته لأجل الخروج من المنزل وحسب؟
بعد مُدة توصلت لحل وسط، ربما أتى صدفة؛ وهو العمل كمعلمة حرة؛ فقط لأخرج من البيت، وعرفت كيف أوفق بين العملين، كنت أعمل في النهار وأكتب في الصباح أو الليل، وسارت الحياة جيدًا، وتمكنت من حل أولى مشكلاتي.
لم يعلمني أحد كيف أبدأ
أثناء الكتابة كنت أتطور وأتنقل من موقع إلكتروني لآخر، موقع يحتاج لصبر طويل، وآخر لا يعلق لي على أي شيء مما أقدمه، كنت أتطور من الناحية المادية، لا أُنكر، ولكن كان التحدي الثاني أنني لا أتعلم شيئًا تقريبًا، فأنا لا أستقبل تعديلات ولا أجد تعليق من المحرر يطور من مهاراتي؛ فإما أن يُقبل المقال ويُنشر كما هو وإما أن يرفضه تمامًا.
حاولت التغلب على هذه المشكلة بالاستعانة بأصدقائي، وكنت أتعرف على زملاء في المجال الصحفي وأعرض عليهم كتاباتي، ما رأيكم بهذا؟ كيف يمكن أن يكون مقالي أفضل؟ وقد أضافوا لي الكثير.
في نفس الوقت لم أكن أتوقف عن السعي، كنت أبحث عن فرص جديدة فأترك موقع وأبدأ مع آخر، وخلال التجارب المختلفة، وكلها كان يعتمد على العمل بالقطعة أو فري لانس، كنت أجد من يضيف لي بقوة، وكانت ميزة جيدة أن أتعامل مع أماكن مختلفة في مجالات مختلفة، وكانت النتيجة ثراء وتنوع في الكتابة والمهارات المكتسبة.
كنت أكتب في مكان لأجل المال وآخر للخبرة، وتدريجيًا بدأت أقرأ مقالات كثيرة لأرى كيف تتنوع وتتباين الأساليب الصحفية وكلها كان لها تأثيرًا جيدًا علي وعلى رؤيتي لنفسي، وعرفت أنه يمكنني أن أتعلم بشكل ذاتي، ففي الواقع حين بدأت لم يعلمني أحد أي شيء، وقبلت التحدي بدلًا من أن أعمل تحت رئاسة مدير يتعالى على لأني مبتدأة أو ليس لدي خبرة، وقد سارت الأمور جيدًا، رغم كثرة الإحباطات التي مررت بها.
بعد بضعة أشهر من العمل في مجال التدريس والتوفيق بينه وبين الكتابة، كان قد انتهى العام الدراسي، حينها بدأت بالتقديم على بعض الورش الصحفية، ولم يكن ذلك في المحافظة التي أعيش فيها بالطبع، في المرة الأولى تردد أهلي على ذهابي إحدى الورش ولكني تحديتهم وذهبت.
هناك تعرفت بشكل عملي على صحفيين من محافظات مختلفة وعرفت أن هناك أبوابًا مختلفة للتعلم يمكنني أن أطرق عليها غير التدرب في مؤسسة صحفية.
بعدها بفترة تم قبولي في إحدى المنح في الجامعة الأمريكية، وكان رفض أهلي معي عنيفًا هذه المرة، إلا أنني فعلتها أيضًا، في هذه الفترة قررت الاستقالال بعيدًا عن أهلي، ووجدت فرصًا جيدة لاستكشاف الحياة والتعلم في العاصمة، وأخذت أتنقل بين ورش مختلفة في مجالات مختلفة لأعرف ماذا أريد بالضبط، وكلها أضافت لي بشكل أو بآخر.
وسط كل ذلك أدركت لأول مرة فعليًا أنني محظوظة بنظام العمل الذي أسير عليه، فأنا التي أحدد متى أعمل ومتى أقف، ما المناسب لي وما الغير مناسب، وشعرت بسيطرتي على حياتي، على عكس البداية التي كانت مجرد نظام عمل لطيف وجنيهات إضافية أتحصلها بجانب دراستي.
على أن أعرف ماذا أريد
لا أنكر أنه من الأمور التي واجهتني بعد التخرج أيضًا هي تشتتي بين مجالات كثيرة، فأنا مُحبة للتعلم والمعرفة في مجالات شتى حتى وإن كنت أعمل فعليًا، كل ذلك كان مرهقًا ولم أكن أعرف ما الذي أريده بالظبط من بين ذلك كله.
كنت استعين بمن هم أكبر مني خبرة وسنًا وأسألهم عن مجالاتهم وكيف بدأوا واستمروا، لأني كنت أشعر بالتيه، هل أكمل في الصحافة أم الترجمة أم التسويق الإلكتروني؟
وكانت الإجابة الأكثر منطقية بالنسبة لي هي أنني يمكن أن أعمل في مجالات مختلفة كل فترة حسب المهارات التي لدي، وليس هناك قالب محدد يجب أن أسير عليه.
ما شجعني على ذلك هو أنني أتحكم بوقتي، ساعات محددة أنا من أتحكم بها وأعرف ماذا أريده فيها ليبقى لدي وقت لأفعل ما أريد وأتعلم مهارات جديدة، فأصبحت أتعلم لغة جديدة، أمارس هوايتي الأثيرة، أسافر من حين لآخر وأقابل أصدقائي حينما أريد، فأنا المتحكمة في كل شيء.
التحكم بكل شيء في عملي وحياتي كان الأساس
عرفت بعد تلك المدة ما أريد وكيف سأصل إليه، حددت بعد فترة أن العمل الحر freelance هو الأنسب لي، فأنا التي أسيطر على كل شيء، ومع عملي مع مواقع مختلفة وألوان كتابة مختلفة تمكنت من أن أُوجد نظام عمل يناسب شخصيتي ال(multitasking)، فتارة أكتب مقال رأي ومرة أكتب فيتشر ومرة مقابلة صحفية، كل منهم في مكان مختلف ومع محرريين مختلفين وجميعهم يضيفون لي شيئًا جديدًا، كما أحصل على نفس الأجر الذي يحصل عليه شخص يعمل في المجال لسنوات طويلة.
لا أنكر أني كنت كثيرًا ما أفتقد فكرة الانتماء لمكان يدعمني بشكل رسمي ويقدم لي خبرة، وأن يكون لي زملاء عمل وطريق مواصلات أشاهد فيه العالم كل يوم، ولكني أدركت تمامًا أنني إن ذهبت إلى عمل بالنظام التقليدي سأفقد الكثير من الأمتيازات وربما يتم التعامل على أنني قليلة الخبرة، وهذا أيضًا يتضمن راتب أقل وربما استعلاء من زملاء المهنة، بجانب الروتين الذي يمكن أن يهلكني؛ ولهذا أنا ممتنة لأني عرفت أخيرًا ماذا أريد وكيف أحققه، وبدأت أخطط لحياتي في السنوات القادمة ماذا سأفعل وكيف، ولا أشغل بالًا لعملي “لأن كله تحت السيطرة”، ولا أحد يلزمني بشيء.
أفتخر أني بدأت من الصفر في مجال لم أعرف فيه أحد، وتطور مستوى كتابتي حتى أصبحت أكتب مقالات كثيرة لا يأتيني عليها تعديلات وتُنشر في أماكن كبيرة، كما تواصلت معي محررات إحدى المواقع التي أعمل بها لتتعرف على أكثر وتخبرني أن كتابتي واعدة، وأنها ترغب في التعرف على أكثر وأخبرتني أنهم لا يتصلوا بأي شخص تعجب مقالاته.
لم أصل لذلك فقط بل ها أنا ذا أدرس دبلومة بجانب عملي، وتارة أسافر وتارة أخرج مع الأصدقاء وحين أرغب بالتوقف أستطيع، على عكس الانتماء لمؤسسة وظيفية سيعذبني مديرها إن طلبت إجازة أو تأخرت دقائق عن موعدي، ولهذا أقول لمن يشعرون نفس الحيرة جربوا، وتعرفوا على أنفسكم جيدًا وأكتشفوا ما الذي تريدونه حتى يأتي الروتين الذي يشجعكم على التميز والإبداع ويحترم كل ما تقدمونه.