عنوان المقال ليس للسخرية، أو محاولة لركوب “التريند”، لكن عندما يأتي نوفمبر، تأتي أوجاع النساء، ويطلق العالم الحملة الشهيرة، 16 يومًا لمناهضة العنف ضد النساء، نلقي فيها الضوء على ممارسات يتعرضن لها، هنا تقرر بعض النساء التحلي بالقوة، لكن أخريات لا بديل لهن عن البقاء أقوى، بين المسارين تلك السطور.
أشكال للعنف
تخطئ حين تظن أن العنف دلالة على الأذى الجسدي، هناك أنواع عديدة من العنف، أن تعمل امرأة في مهنة خطيرة، ذلك عنف، أو أن تؤدي عملًا لا يناسب قدراتها وإمكانياتها، ذلك أعنف أيضًا، وحين تؤدي عمل الرجال دون ذات الرواتب، هل هذا شيء سوى العنف؟، ويظل هناك شكلًا أشهر للعنف.
التحرش، أحد أكثر أوجه العنف ضد المرأة شيوعًا، لفظيًا كان أم جسديًا، حقيقيًا كان أم افتراضيًا، ولكن ذلك ليس وحده مظهرًا للعنف، الزواج المبكر، وختان الإناث، كلها مظاهر للعنف ضد المرأة، أعلم أنك ستظن خطأً، أنك ضللت طريقك، إلى ندوة تنظمها ناشطات، في حقوق المرأة، لكنني سآخذك إل قلب القصة.
الخروج إلى الشارع
ما الذي يدفع فتاة أو امرأة، للخروج إلى العمل؟ تحقيق الذات، إجابة صحيحة، قضاء وقت الفراغ، ربما، للتعرف على خبرات حياتية جديدة، أمر وارد، لكن نساء تلك السطور لم يخرجن لأي مما سبق، كان خروجهن إجباريًا، دونه الموت أو الفقد أو الهلاك. نحن أمام فتيات يتيمات، نساء أرامل، أو مطلقات.
لا يخرجن إلا لأمر أوحد، قوت يومهن، وما يملأ بطون أطفالهن، أو أشقائهن، أو لمساعدة أزواجهن الذين فقدوا مصدر الرزق، أو القدرة على العمل. ولأن الحاجة تفرض ذلك، يعملن في الأنشطة الزراعية، أو المشغولات اليدوية، أو تجارة الخضراوات، أو الخدمة المنزلية، أو العمل في ظل ظروف غير آدمية ببضعة جنيهات.
المشهد السابق ليس عملًا دراميًا، لكنه حال آلاف النساء والفتيات، في قرى ونجوع ومناطق عشوائية، فرضت عليهن الضغوط شكلًا مختلفًا من العمل، فيما يسمى “القطاع غير الرسمي”، حيث لا تأمين صحي أو اجتماعي، أو مراعاة لظروفهن، أو رقيب أو حسيب، أو راتب مقبول، وأمور لا تخلُ من العنف والتعرض للتحرش.
ضوء في نهاية الطريق
لا أريد أن تأخذ الأمور منحى دراماتيكي، لأن واقعهن أكثر دراماتيكية مما يستطيع كاتب أن يصف، لكنني سآخذ يديك إلى ذلك الضوء في نهاية الطريق، حيث أحد المشروعات التنموية، التي أطلقتها الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، على مدار خمس سنوات، وستة أشهر، في محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية وبني سويف والمنيا.
المشروع الذي يحمل اسم “تحسين أوضاع النساء العاملات في القطاع غير الرسمي”، وتم تنفيذه في 30 مجتمعٍ محلي، تم خلاله رفع قدرات جمعيات أهلية في تلك المجتمعات، بالشراكة مع مؤسسات الدولة، والقطاع الخاص، في الريف والحضر، والمناطق العشوائية، لكنك لن تتصور أبدًا أن جهدًا كبيرًا يقف خلف تحقيق تلك الأرقام.
ذلك أننا نتحدث هنا عن نساء معظمهن دون أوراق ثبوتية، لا يقرأن ولا يكتبن، بعضهن من ذوي الإعاقة، بما في ذلك الإعاقة الذهنية، البعض الآخر أمهات، وكثير منهن دون مهارة، أو لا تعلم مهارتها الأفضل. ويهدف المشروع إلى تأهيلهن، ومساعدتهن على استخراج أوراقهن الرسمية، حتى تبدأ رحلتهن مع الوجود كمواطنات.
أفكار لن تصدقها
لنجاح تلك المنظومة، وتحقيق هدف التنمية المستدامة، ولأنه مشروع يتناول فئات مهمشة من خلفيات متنوعة، كان لابد من أفكار غير تقليدية، إحداها “مراكز الموارد المجتمعية”، تجمع بيانات النساء في مجتمعاتها المحلية، ما يحتجنه من أوراق، ومهارات، وما الذي يبرعن فيه، ويرتبط بالنشاط الاقتصادي الأبرز حولهن، وفرص العمل المتاحة بالقطاع الخاص.
الآن لديهن مسار وظيفي واضح، مهنة، ومهارة، أوراقًا ثبوتية، وكيان، وذات يعترف بها المجتمع، والدولة بمؤسساتها، مع تشكيل “لجان المراقبة المجتمعية”، تأخذ الأمور شكلًا أكثر مؤسسية وجدية، لجان من الجمعيات والمسؤولين والنواب الشعب، لمتابعة النساء والفتيات، وضمان عدم تعرضهن لانتهاكات، والتزام منشآت العمل والمصانع بكافة حقوقهن التي يكفلها الدستور والقانون.
لكن لا تزال هناك فتيات ونساء أقل حظًا، لا يقدرن على مغادرة قراهم، وأحيائهم السكنية، ظروف شخصية ربما، منظومة المجتمع كثيرًا ما تعيق ذلك، حتى بعض النساء ممن يرفضن أفكار الاعتماد على الذات، وخوض صعاب سوق العمل، من أجلهن تأسست “الوحدات الإنتاجية”، ورش ومصانع صغيرة، الآن يمكنهن العمل دون خوف.
لن تصدق كيف تستطيع سيدة بسيطة من صعيد مصر دراسة السوق، وتحليل المنافسين، ووضع خطة تسعير للمنتج، فيما تضع فتاة لم تكمل تعليمها استراتيجية للتسويق، والتوسع، وصيانة الماكينات، في الوحدة الإنتاجية التي تديرها في قريتها، فيما تجلس سيدة من منطقة عشوائية، أمام مديرة مدرسة “إنترناشيونال”، لإدارة صفقة إنتاج “يونيفورم” بورشتها.
لن تصدق كيف تتغلب نساء من “ذوي الهمم”، على تحديات عملهن على ماكينات، تم تعديلها خصيصًا لأجلهن، وكيف اقترحت النساء تصوير فيديو يوضح طريقة عمل الماكينات الأبسط، لذوي الإعاقة الذهنية، تحت إشرافهن الكامل والآمن. وكيف تم ربط النساء بالمبادرات الرئاسية والقومية مثل شهادة “أمان”، ومنحة العمالة غير المنتظمة، “تكافل وكرامة”.
لن تصدق كيف عمل الجميع، مسؤولين، وجمعيات أهلية، وقطاع خاص، لتعيين نساء من ذوي الإعاقة، في وظائف تدخل ضمن نسبة الخمسة في المائة، التي يتم تعيينهم بالمؤسسات من الأشخاص ذوي الإعاقة، لن تصدق كل ذلك لأنك لم تسمع قصة نهلة، ولم تر عينا لمياء تلمعان فخرًا بما أنجزته في محيطها.
نماذج ملهمة
قلت لك في البداية أننا نتحدث عن نساء قويات، لأن لا بديل لهن عن ذلك، مثل “انتصار” التي أجبرتها إعاقتها وضغوط الحياة على بيع الخضراوات أمام بيتها، ثم انتقلت للبيع في السوق بمحافظة المنيا، بكل ما تحمله الكلمة من مشقة، قبل أن تتعلم الخياطة، وتعمل في مصنع لتصدير الملابس الجاهزة.
بدا صوتها خافتًا، حتى ارتفع محدثًا دويًا كبيرًا، عندما ذكرت كيف ساهمت في تجهيز شقيقتها للزواج، وساعدت أسرتها على بناء منزل آدمي، وشاركت زوجها في توفير أجهزة منزلية. أو “نهلة” ابنة المنيا، التي لم تكمل تعليمها، وعملت بالزراعة، قبل أن تتدرج من عاملة إلى مدربة بمصنع، برأس مال أجنبي، للتصدير.
“نهلة” تدرب العاملين والعاملات الجدد، في مصنع أجنبي، ساعدت زوجها ليعمل مقاولًا للأخشاب، بعد أن عمل نجار مسلح، وساعدت أشقائها لاستكمال تعليمهم، لأنها لا تريد أن يمروا بما مرت به. أو “لمياء” التي تفتخر بتأسيس ورشة خياطة في قريتها، لحماية الفتيات من التحرش والمضايقات أثناء بحثهن عن العمل خارج بلدهن.
حان دورك
ربما استفادت آلاف النساء من تلك الجهود الصادقة، لكن مئات الآلاف ينتظرن الأمر ذاته، وربما حان دورك لتقديم يد العون، ربما تكون متطوعًا في إطار جهد مماثل، لديك الروشتة الآن، ربنا أنت مديرة مدرسة تريد يد ماهرة تصنع “اليونيفورم”، أو صاحب مصنع لم تكن تعلم بوجود “نهلة”، الآن عليك التحرك.
أنشر الكلمة، تبنى الفلسفة، ليصبح الأمر ثقافة، شجع على تحويل العاملين والعاملات في القطاع غير الرسمي، إلى كيانات منتجة تحت مظلة حقوق، لديها القدر على الاستدامة، الوقوف بجانب سيدة أو فتاة، مساندة لأسرة كاملة، ودعم للمجتمع بأسره. إذا كان لديك عاملات من الكفاءات لا تمنحهن أجورًا أقل لكونهن نساء فقط.
إذا كنت صاحب عمل، لا تشغلهن فوق ساعات العمل، وإن حدث امنحهن بدل ساعات عمل منصف، إن كان عددهن أكثر من 50 سيدة، عليك توفير حضانة لأطفالهن، وفر لهن مواصلات آدمية، إذا كنت مدير مؤسسة مالية أو تمويلية، اطلق حملات لتعريفهن بفرص دعم مشاريعهن، بالقروض والمنح، ودراسات الجدوى، والتسويق لمنتجاتهن.
تمكين المرأة اقتصاديًا اجتماعيًا سياسيًا، ليس هدفه استفزاز وتهديد رجولتك، لا نريد أن نصنع أندادًا، بل نقيم شركاء وسند، إنهن نساء قويات، لنساعدهن على الترقي في سلم الحياة، حينها سنخجل عند السخرية من جملة “سترونج اندبندنت وومن strong independent woman” أو امرأة قوية مستقلة، لنحترم قدرتهن على التحدي والنجاة، وإن لم توقف العنف ضدهن، فقط لا تشجعه.