الحديث عن الأمان الوظيفي يذكرني على الفور بأبي الذي كان يعمل موظفًا حكوميًا بإحدى المؤسسات؛ كان أبي يعود إلى البيت في الساعة الثانية ظهرًا، نتحلق جميعاً حول المائدة من أجل الغداء ثم نشاهد فيلمًا بالأبيض والأسود.
طوال سنوات عمري لم يعمل أبي لوقتًا متأخرًا من الليل، ولم يداهمه القلق من خسارة وظيفته في المؤسسة التي ظل يعمل بها طوال 30 عامًا، قد يبدو الأمر مملًا ولكن بالنسبة لأبي كانت هناك ميزة لم تعد اليوم موجودة مثل السابق، وهي الطمأنينة والأمان الوظيفي.
ما هو الأمان الوظيفي؟
الأمان الوظيفي هو “الحالة النفسية التي تعكس توقعات الموظفين حول مدى استمراريتهم في العمل داخل نفس الشركة، وعادة ما ينشأ الأمان الوظيفي نتيجة ممارسات مسئولي الشركة وسياستها تجاه الموظفين”.
يؤدي الأمان الوظيفي دورًا هامًا في حفظ الحياة المهنية والاجتماعية للأشخاص لأنه يساعدهم على عدم القلق بشأن مستقبلهم.
كيف يؤثر الأمان الوظيفي على الإنتاجية
قد يعتقد أصحاب الأعمال ومديري الشركات أن شعور الموظف بالقلق وعدم الأمان لن يؤثر على عمله، ولكن العكس هو الصحيح فإحساس الموظف بالأمان سيشجعه على الإبداع وعلى تحقيق مزيد من النجاح، وسوف تستفيد الشركة من الأمان الوظيفي لعامليها بأكثر من شكل:
1- سوف يقدم الموظف أفضل ما لديه
أجرى مركز تعليم المرأة بجامعة ميتشيغان استطلاعًا للرأي حول الأمان الوظيفي خلال عام 2010 وتوصل إلى أن أكثر من 75٪ من المشاركين اعتبروا الأمن الوظيفي أولوية قصوى عند البحث عن وظيفة نتيجة البيئة الاقتصادية غير الآمنة.
وأضاف المشاركين أن الأمن الوظيفي سيساعدهم على تحقيق التوازن بين العمل وحياتهم الشخصية وتقليل مستوى التوتر لديهم.
حين يشعر الموظف أنه في بيئة مستقرة لن يشغل القلق من فقدان العمل حيزًا من تفكيره، ولكنه عوضاً عن ذلك سيسعى إلى إتقان عمله وسيركز بشكل أكبر على تحقيق أهدافه المهنية وهو الأمر الذي سينعكس على الإنتاجية بكل تأكيد.
2- مزيدًا من الأرباح
اعتاد جاك ويلش، الرئيس السابق لشركة جنرال إليكتريك على استخدام قاعدة “صنف واطرد” وترتكز هذه القاعدة على فصل 10% من الموظفين الأكثر ضعفًا.
ويهدف ويلش بهذه القاعدة إلى إبقاء الموظفين داخل شركته في حالة من اليقظة الدائمة، ولكن الحقيقة أنه ومن دون أن يدري غرس بداخلهم مشاعر انعدام الأمان الوظيفي.
يقول ويليام شيمان، رئيس مجموعة ميترس التجارية، وهي شركة أبحاث في مجال الإدارة في سومرفيل بولاية نيوجيرسي الأمريكية، إن الشركات تستخدم مفهوم الأمان الوظيفي من أجل تهديد الموظفين لا من أجل تحفيزهم ومن شأن هذا الأسلوب أن يؤدي إلى تدمير بيئة العمل.
وعلى عكس ما يظنه مديرو الشركات فإن استبدال موظف بآخر له تكلفة اقتصادية كبيرة، وسيؤدي إلى فقدان روح العمل بين الموظفين، وذلك على عكس الموظفين الذين لديهم تاريخ وظيفي في الشركة ولديهم القدرة على التناغم معاً وهو الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة الإنتاجية كما أن تواجدهم معًا سيعزز من شعورهم بالانتماء إلى المكان وسيبتكرون ويبدعوا من أجل أن يخرج العمل في أحسن صورة وبالتالي سترتفع أرباح الشركة.
3- خلق بيئة عمل مثالية
حين تسود حالة عدم الاستقرار في مكان العمل ماذا سيحدث؟ ستتحول بيئة العمل إلى مكان سام؛ فمن ناحية ينهش القلق والخوف في نفوس الموظفين، فلا يوجد أحد يضمن مكانه واستمراره في العمل.
ومن ناحية أخرى، وكرد فعل على حالة الخوف ستظهر المنافسة والغيرة بين زملاء العمل؛ فكل واحد سيسعى بكل قوته أن يثبت لمديره أنه الأجدر بالبقاء في الوظيفة، وبالتالي سيؤدي كل ذلك إلى خلق بيئة عمل غير آمنة، وذلك على عكس الأمان الوظيفي الذي سيجعل الجميع يعملون بشكل صحي وإبداعي دون حقد أو خوف أو منافسة غير شريفة.
انعدام الأمان الوظيفي: آفة الرأسمالية الحديثة
يقول عالم الاجتماع الأمريكي ريتشارد سينيت “طوال معظم التاريخ الإنساني، تقبل البشر حقيقة أن حياتهم ستتغير فجأة بسبب الحروب أو المجاعات أو أي نوع آخر من الكوارث، وسيكون عليهم الارتجال حينها للنجاة.
أما الغريب حِيال عدم اليقين اليوم، هو أنه موجود بلا أي كوارث حقيقية تلوح في الأفق؛ عدم اليقين اليوم موجود في نسيج الحياة نفسها التي صنعتها الرأسمالية”.
في النهاية علينا أن ندرك أن انعدام الأمان الوظيفي لا يؤدي فقط إلى فقدان العاملين لوظائفهم ولكنه يؤثر أيضًا بالسلب على صحة الموظفين، وقد يتطور الأمر إلى الدخول في حالة اكتئاب أو الانتحار.
وفقًا لدراسة، أجرتها المجلة الأمريكية للصحة الوقائية، أدى الركود العالمي عام 2007 إلى أكثر من 10 آلاف حالة الانتحار في مكان العمل بأوروبا وأمريكا الشمالية.